كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



ولقد كانوا في الجاهلية يهجمون هجوماً، فيدخل الزائر البيت. ثم يقول: لقد دخلت! وكان يقع أن يكون صاحب الدار مع أهله في الحالة التي لا يجوز أن يراهما عليها أحد. وكان يقع أن تكون المرأة عارية أو مكشوفة العورة هي أو الرجل. وكان ذلك يؤذي ويجرح، ويحرم البيوت أمنها وسكينتها؛ كما يعرض النفوس من هنا ومن هناك للفتنة، حين تقع العين على ما يثير.
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي. أدب الاستئذان على البيوت، والسلام على أهلها لإيناسهم، وإزالة الوحشة من نفوسهم، قبل الدخول:
{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها}..
ويعبر عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان، ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به، واستعداداً لاستقباله. وهي لفتة دقيقة لطيفة، لرعاية أحوال النفوس، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم، وما يلابسها من ضرورات لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار.
وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت أحد من أهلها أو لا يكون. فإن لم يكن أحد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان، لأنه لا دخول بغير إذن:
{فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم}..
وإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول؛ فإنما هو طلب للإذن. فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. ويجب الانصراف دون تلكؤ ولا انتظار:
{وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم}..
ارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة، ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم، أو النفرة منكم. فللناس أسرارهم وأعذارهم. ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين.
{والله بما تعملون عليم}.. فهو المطلع على خفايا القلوب؛ وعلى ما فيها من دوافع ومثيرات.
فأما البيوت العامة كالفنادق والمثاوى والبيوت المعدة للضيافة منفصلة عن السكن، فلا حرج في الدخول إليها بغير استئذان، دفعاً للمشقة ما دامت علة الاستئذان منتفية:
{ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم}..
{والله يعلم ما تبدون وما تكتمون}.. فالأمر معلق باطلاع الله على ظاهركم وخافيكم؛ ورقابته لكم في سركم وعلانيتكم. وفي هذه الرقابة ضمان لطاعة القلوب، وامتثالها لذلك الأدب العالي، الذي يأخذها الله به في كتابه، الذي يرسم للبشرية نهجها الكامل في كل اتجاه.
إن القرآن منهاج حياة. فهو يحتفل بهذه الجزئية من الحياة الاجتماعية، ويمنحها هذه العناية، لأنه يعالج الحياة كلياً وجزئياً، لينسق بين أجزائها وبين فكرتها الكلية العليا بهذا العلاج. فالاستئذان على البيوت يحقق للبيوت حرمتها التي تجعل منها مثابة وسكناً. ويوفر على أهلها الحرج من المفاجأة، والضيق بالمباغتة، والتأذي بانكشاف العورات.. وهي عورات كثيرة، تعني غير ما يتبادر إلى الذهن عند ذكر هذه اللفظة.. إنها ليست عورات البدن وحدها. إنما تضاف إليها عورات الطعام، وعورات اللباس، وعورات الأثاث، التي قد لا يحب أهلها أن يفاجئهم عليها الناس دون تهيؤ وتجمل وإعداد.
وهي عورات المشاعر والحالات النفسية، فكم منا يحب أن يراه الناس وهو في حالة ضعف يبكي لانفعال مؤثر، أو يغضب لشأن مثير، أو يتوجع لألم يخفيه عن الغرباء؟!.
وكل هذه الدقائق يرعاها المنهج القرآني بهذا الأدب الرفيع، أدب الاستئذان؛ ويرعى معها تقليل فرص النظرات السانحة والالتقاءات العابرة، التي طالما أيقظت في النفوس كامن الشهوات والرغبات؛ وطالما نشأت عنها علاقات ولقاءات، يدبرها الشيطان، ويوجهها في غفلة عن العيون الراعية، والقلوب الناصحة، هنا أو هناك!
ولقد رعاها الذين آمنوا يوم خوطبوا بها أول مرة عند نزول هذه الآيات. وبدأ بها رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أخرج أبو داود والنسائي من حديث أبي عمر الأوزاعي بإسناده عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. قال قيس: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعه يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» فرد سعد رداً خفياً. ثم قال رسول الله صلى الله عليع وسلم-: «السلام عليكم ورحمة الله» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فقال: فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل؛ ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وهو يقول: «اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة».. الخ الحديث.
وأخرج أبو داود بإسناده عن عبد الله بن بشر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه؛ وكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم. السلام عليكم.» ذلك أن الدور لم يكن يومئذ عليها ستور.
وروى أبو داود كذلك بإسناده عن هذيل قال: جاء رجل قال عثمان: سعد فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن. فقام على الباب قال عثمان: مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم-: «هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر».
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن، فحذفته بحصاه ففقأت عينه ما كان عليك من جناح».
وروى أبو داود بإسناده عن ربعي قال: أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل: السلام عليكم. أأدخل؟» فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.
وقال هشيم: قال مغيرة: قال مجاهد: جاء ابن عمر من حاجة، وقد آذاه الرمضاء؛ فأتى فسطاط امرأة من قريش، فقال: السلام عليكم. أأدخل؟ قالت: ادخل بسلام. فأعاد. فأعادت. وهو يراوح بين قدميه. قال: قولي: ادخل. قالت: ادخل. فدخل!
وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قلت أأستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال: نعم. فرددت عليه ليرخص لي فأبى، فقال: تحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستأذن. قال: فراجعته أيضاً. فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال: قلت: نعم. قال: فاستأذن.
وجاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً.. وفي رواية: ليلا يتخونهم.
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً، فأناخ بظاهرها وقال: «انتظروا حتى ندخل عشاء يعني آخر النهار حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة».
إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء، المشرق بنور الله.
ونحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق تبلدت وغلظت. وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته، في أية لحظة من لحظات الليل والنهار، يطرقه ويطرقه ويطرقه فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد يكون في البيت هاتف تليفون يملك أن يستأذن عن طريقه، قبل أن يجيء، ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب؛ ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان، وعلى غير موعد. ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار ولا انتظار!
ونحن اليوم مسلمون، ولكننا نطرق إخواننا في أية لحظة في موعد الطعام. فإن لم يقدم لنا الطعام وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! ونطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعونا إلى المبيت عندهم وجدنا في أنفسنا من ذلك شيئاً! دون أن نقدر أعذارهم في هذا وذاك!
ذلك أننا لا نتأدب بأدب الإسلام؛ ولا نجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نحن عبيد لعرف خاطئ، ما أنزل الله به من سلطان!
ونرى غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام، يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون أدباً لنا في النفس، وتقليداً من تقاليدنا في السلوك.
فيعجبنا ما نراهم عليه أحياناً؛ ونتندر به أحياناً؛ ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل، فنفيء إليه مطمئنين.
وبعد الانتهاء من أدب الاستئذان على البيوت وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر وإتقاء أسباب الفتنة العابرة يأخذ على الفتنة الطريق كي لا تنطلق من عقالها، بدافع النظر لمواضع الفتنة المثيرة، وبدافع الحركة المعبرة، الداعية إلى الغواية:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}..
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين. فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينطفئ ولا يرتوي. والنظرة الخائنة، والحركة المثيرة، والزنية المتبرجة، والجسم العاري.. كلها لا تصنع شيئاً إلا أن تهيج ذلك السعار الحيواني المجنون! وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة. فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة من الكبح بعد الإثارة! وهي تكاد أن تكون عملية تعذيب!!!
وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري العميق بين الجنسين، سليماً، وبقوته الطبيعية، دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف.
ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين الجنسين والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة.. شاع أن كل هذا تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون.. الخ.
شاع هذا على إثر انتشار بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة الحيوانية الغارقة في الطين! وبخاصة نظرية فرويد ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية وتفلتا من جميع القيود الاجتماعية الأخلاقية والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم. شاهدت في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي، والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوماً أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه.. ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يقيده قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح معها كل شيء! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد. مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر في تلك النظريات التي كذبها الواقع المشهود.
إن الميل الفطري بين الرجل والمرأة ميل عميق في التكوين الحيوي؛ لأن الله قد ناط به امتداد الحياة على هذه الأرض؛ وتحقيق الخلافة لهذا الإنسان فيها. فهو ميل دائم يسكن فترة ثم يعود. وإثارته في كل حين تزيد من عرامته؛ وتدفع به إلى الإفضاء المادي للحصول على الراحة. فإذا لم يتم هذا تعبت الأعصاب المستثارة. وكان هذا بمثابة عملية تعذيب مستمرة! والنظرة تثير. والحركة تثير. والضحكة تثير. والدعابة تثير. والنبرة المعبرة عن هذا الميل تثير. والطريق المأمون هو تقليل هذه المثيرات بحيث يبقى هذا الميل في حدوده الطبيعية، ثم يلبى تلبية طبيعية.. وهذا هو المنهج الذي يختاره الإسلام. مع تهذيب الطبع، وشغل الطاقة البشرية بهموم أخرى في الحياة، غير تلبية دافع اللحم والدم، فلا تكون هذه التلبية هي المنفذ الوحيد!
وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون}..
وغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقاً للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر. أو هو الخطوة التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة، والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى. ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة؛ بوصفهما سبباً ونتيجة؛ أو باعتبارهما خطوتين متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. كلتاهما قريب من قريب.
{ذلك أزكى لهم}.. فهو أطهر لمشاعرهم؛ وأضمن لعدم تلوثها بالانفعالات الشهوية في غير موضعها المشروع النظيف، وعدم ارتكاسها إلى الدرك الحيواني الهابط.
وهو أطهر للجماعة وأصون لحرماتها وأعراضها، وجوها الذي تتنفس فيه.
والله هو الذي يأخذهم بهذه الوقاية؛ وهو العليم بتركيبهم النفسي وتكوينهم الفطري، الخبير بحركات نفوسهم وحركات جوارحهم: {إن الله خبير بما يصنعون}..